الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)
.الضرب الثاني: في مقابلة الشيء مثله: وهو يتفرع إلى فرعين أحدهما: مقابلة المفرد بالمفرد، والآخر مقابلة الجملة بالجملة.الفرع الأول: كقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} وكقوله تعالى: {ومكروا مكرًا ومكرنا مكرا} وقد روعي هذا الموضع في القرآن الكريم كثيرا، فإذا ورد في صدر آية من الآيات ما يحتاج إلى جوانب كان جوابه مماثلا، كقوله تعالى: {من كفر فعليه كفره} وكقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} وهذا هو الأحسن، وإلا فلو قيل من كفر فعليه ذنبه كان ذلك جائزا، لكن الأحسن هو ما ورد في كتاب الله تعالى، وعليه مدار الاستعمال.وهذا الحكم يجري في النظم والنثر من الأسجاع والأبيات الشعرية.فأما إن كان ذلك غير جواب، فإنه لا يلتزم فيه هذه المراعاة اللفظية، ألا ترى أنه قد قوبلت الكلمة بكلمة هي في معناها، وإن لم تكن مساوية لها في اللفظ، وهذا يقع في الألفاظ المترادفة، ولذا يستعمل ذلك في الموضع الذي ترد فيه الكلمة غير جواب.فما جاء منه قوله تعالى: {ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون} ولو كان لا تورد الكلمة إلا مثلا لقيل وهو أعلم بما تعملون، وكذلك قوله تعالى: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض} فقال: {لا تخف} بعد قوله: {ففزع} ولما كان هذا في معنى هذا قوبل أحدهما بالآخر، ولم يقابل اللفظ بنفسه.وكذلك جاء قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} فذكر الاستهزاء الذي هو في معنى الخوض واللعب وقابل به الخوض واللعب، ولو ذكره على حد المماثلة والمساواة لقال: أفي الله وآياته ورسوله كنتم تخوضون وتلعبون.فإن قيل: إنك قد احتججت بالقرآن الكريم فيما ذكرته، ونرى قد ورد في القرآن الكريم ما ينقضه، كقوله تعالى: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها} ولم يقل جزاء سيئة مثلها.الجواب عن ذلك أني أقول: أردت أن تنقض علي ما ذكرته فلم تنقضه، ولكنك شيدته، والذي ذكرته هو دليل لي لا لك، ألا ترى أنه لا فرق بين قوله تعالى: {جزاء سيئة بمثلها} وبين قوله جزاء سيئة سيئة مثلها، إذ المعنى واحد لا يختلف، ولو جاء عوضا عن السيئة لفظة أخرى، في معناها كالأذى والسوء أو ما جرى مجراهما لصح لك ما ذهبت إليه.وقد ذهب بعض المتصدرين في علم البيان أنه إذا ذكرت اللفظة في أول كلام يحتاج إلى تمام، وإن لم يكن جوابا كالذي تقدم، فينبغي أن تعاد بعينها في آخره، ومتى عدل عن ذلك كان معيبا، ثم مثل ذلك بقول أبي تمام وقول أبي الطيب المتنبي، فقال: إن أبا تمام أخطأ في قوله:فحيث ذكر الرجاء في صدر البيت فكان ينبغي أن يعيد ذكره أيضاً في عجزه، أو كان ذكر الآمال في صدر البيت وعجزه، وكذلك أخطأ أبو الطيب المتنبي في قوله: فإنه قال: إني لأعلم واللبيب خبير وكان ينبغي أن يقول: إني لأعلم واللبيب عليم، ليكون ذلك تقابلا صحيحا.وهذا الذي ذكره هذا الرجل ليس بشيء، بل المعتمد عليه في هذا الباب أنه إذا كانت اللفظة في معنى أختها جاز استعمالها في المقابلة بينهما، والدليل على ذلك ما قدمناه من آيات القرآن الكريم وكفى به دليلا.وهذه الرموز التي هي أسرار الكلام لا يتفطن لاستعمالها إلا أحد رجلين: إما فقيه في علم البيان قد مارسه، وإما مشقوق اللسان في الفصاحة قد خلق عارفا بلطائفها مستغنيا عن مطالعة صحائفها، وهذا لا يكون إلا عربي الفطرة يقول ما يقوله طبعا، على أنه لا يسدد في جميع أقواله، ما لم تكن معرفته الفطرية ممزوجة بمعرفته العرفية.الفرع الثاني في مقابلة الجملة بالجملة: اعلم أنه إذا كانت الجملة من الكلام مستقبلة قوبلت بمستقبلة، وإن كانت ماضية قوبلة بماضية، وربما قوبلت الماضية بالمستقبلة والمستقبلة بالماضية، إذا كانت إحداهما في معنى الأخرى.فمن ذلك قوله تعالى: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} فإن هذا تقابل من جهة المعنى، ولو كان التقابل من جهة اللفظ لقال: وإن اهتديت فإنما أهتدي لها، وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى هو أن النفس كل ما عليها فهو بها، أعني أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بسببها ومنها: لأنها الأمارة بالسوء، وكل ما هو لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه إياها، وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسند ذلك إلى نفسه إذا دخل تحته مع علو محله وسداد طريقته كان غيره أولى به.ومن هذا الضرب قوله تعالى: {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا} فإنه لم يراع التقابل في قوله ليسكنوا فيه ومبصرا، لأن القياس يقتضي أن يكون والنهار لتبصروا فيه وإنما هو مراعى من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ، وهذا النظم المطبوع غير المتكلف لأن معنى قوله مبصرا لتبصروا فيه طرق التقلب في الحاجات.واعلم أن في تقابل المعاني بابا عجيب الأمر، يحتاج إلى فضل تأمل، وزيادة نظر، وهو يختص بالفواصل من الكلام المنثور، وبالأعجاز من الأبيات الشعرية.فما جاء من ذلك قوله تعالى في ذم المنافقين: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدن ولكن لا يشعرون} وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} ألا ترى كيف فصل الآية الأخرى بيعلمون والآية التي قبلها بيشعرون، وإنما فعل ذلك لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات معلوم عند الناس خصوصا عند العرب وما كان فيهم من التحارب والتغاور، وفهو كالمحسوس عندهم، فلذلك قال فيه: {لا يشعرون} وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الأخيرة وهو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقا فقال: {لا يعلمون} وآيات القرآن جميعها فصلت هكذا، كقوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير} وقوله تعالى: {له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد} وكقوله: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم} فإنه إنما فصلت الآية الأولى بلطيف خبير لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث وغيره، وأما الآية الثانية فإنما فصلت بغني حميد لأنه قال: {له ما في السماوات وما في الأرض} له لا لحاجة، بل هو غني عنها، جواد بها، لأنه ليس كل غني نافعا بغناه إلا إذا كان جواداً منعماً، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه، واستحق عليه الحمد، فذكر الحميد ليدل على أنه الغني النافع بغناه خلقه، وأما الآية الثالثة فإنها فصلت برءوف رحيم، لأنه لما عدد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم وإجراء الفلك في البحر بهم وتسييرهم في ذلك الهول العظيم وخلقه السماء فوقهم وإمساكه إياهن الوقوع حسن أن يفصل ذلك قوله: {رءوف رحيم} أي: أن هذا الفعل فعل رؤوف بكم رحيم لكم.واعلم أيها المتأمل لكتابنا هذا أنه قلما توجد هذه الملاءمة والمناسبة في كلام ناظم أو ناثر.ومن الآيات ما يشكل فاصلته فيحتاج إلى فكرة وتأمل كقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم} فإنه قد وردت الفاصلة في غير هذا الموضع بتواب رحيم، ويظن الظان أن هذا كذا، ويقول إن التوبة مع الرحمة لا مع الحكمة، وليس كما يظن، بل الفاصلة بتواب حكيم أولى من تواب رحيم، لأن الله عز وجل حكم بالتلاعن على الصورة التي أمر بها، وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده، وذلك حكمة منه، ففصلت الآية الواردة في آخر الآيات بتواب حكيم، فجمع فيها بين التوبة المرجوة من صاحب المعصية وبين الحكمة في سترها على تلك الصورة.وهذا الباب ليس في علم البيان أكثر منه نفعا ولا أعظم فائدة.ومما جاء في هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي: وقد أوخذ على ذلك، وقيل: لو جعل آخر البيت الأول آخرا للبيت الثاني وآخر البيت الثاني آخر للبيت الأول لكان أولى.ولذلك حكاية وهي أنه لما استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها: فلما بلغ إلى هذين البيتين قال: قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله: فبيتاك لم يلتئم شطراهما، كما لم يلتئم شطرا بيتي امرئ القيس، وكان ينبغي لك أن تقول: فقال المتنبي: إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا هو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعلمه الحائك، لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف تفاصيله، وإنما قرن امرؤ القيس النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة بسباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وكذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره، ليكون أحسن تلاؤما، ولما كان وجه المنهزم الجريح عبوسا وعينه باكية قلت ووجهك وضاح وثغرك باسم لأجمع بين الأضداد. .القسم الثاني: في صحة التقسيم وفساده: ولسنا نريد بذلك هاهنا ما تقتضيه القسمة العقلية، كما يذهب إليه المتكلمون فإن ذلك يقتضي أشياء مستحيلة كقولهم: الجواهر لا تخلو: إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة، أو لا مجتمعة ولا مفترقة، أو مجتمعة ومفترقة معا، أو بعضها مجتمعة وبعضها مفترقة، ألا ترى أن هذه القسمة صحيحة من حيث العقل، لاستيفاء الأقسام جميعها وإن كان من جملتها ما يستحيل وجوده.وإنما نريد بالتقسيم هاهنا ما يقتضيه المعنى مما يمكن وجوده من غير أن يترك منها قسم واحد، وإذا ذكرت قام كل منها بنفسه، ولم يشارك غيره، فتارة يكون التقسيم بلفظة إما وتارة بلفظة بين كقولنا: بين كذا وكذا، وتارة منهم، كقولنا: منهم كذا ومنهم كذا، وتارة بأن العدد المراد أولاً بالذكر، ثم يقسم، كقولنا: فانشعب القوم شعبا أربعة، فشعبة ذهبت يمينا وشعبة ذهبت شمالا وشعبة وقفت بمكانها، وشعبة رجعت إلى ورائها.فمما جاء من هذا القسم قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} وهذه قسمة صحيحة، فإنه لا يخلو أقسام العباد من هذه الثلاثة فإما عاص ظالم لنفسه، وإما مطيع مبادر إلى الخيرات، وإما مقتصد بينهما.ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون} وهذه الآية منطبقة المعنى على الآية التي قبلها، فأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون، والسابقون بالخيرات.وعلى نحو من هذا جاء قوله تعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا} فإن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع، وليس لنا قسم ثالث.فإن قيل: إن استيفاء الأقسام ليس شرطا، وترك بعض الأقسام لا يقدح في الكلام، وقد ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} فذكر أصحاب الجنة دون أصحاب النار.فالجواب عن ذلك أني أقول: هذا لا ينقض على ما ذكرته، فإن استيفاء الأقسام يلزم فيما استبهم الإجمال فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم} فإنه حيث قال: {فمنهم} لزم اسيتفاء الأقسام الثلاثة، ولو اقتصر على قسمين منها لم يجز، وأما هذه الآية التي هي: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} فإنه إنما خص أصحاب الجنة بالذكر للعلم بأن أصحاب النار لا فوز لهم، ولو خص أصحاب النار بالذكر لعلم أيضاً ما لأصحاب الجنة، وكذلك كل ما يجري هذا المجرى، فإنه إنما ينظر فيه إلى المستبهم وغير المستبهم فاعرفه.وكان جماعة من أرباب هذه الصناعة يعجبون بقول بعض الأعراب، ويزعمون أن ذلك من أصح التقسيمات، وهو قولهم: النعم ثلاثة: نعمة في حال كونها، ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة، فأبقى الله عليك ما أنت فيه، وحقق ظنك فيما ترتجيه، وتفضل عليك بما لم تحتسبه.وهذا القول فاسد، فإن في أقسام النعم التي قسمها نقصا لا بد منه، وزيادة لا حاجة إليها، فأما النقض فإغفال النعمة الماضية، وأما الزيادة فقوله بعد المستقبلة: ونعمة تأتي غير محتسبة، لأن النعمة التي تأتي غير محتسبة داخلة في قسم النعمة المستقبلة وذاك أن النعمة المستقبلة تنقس قسمين: أحدهما يرجى حصوله، والآخر لا يحتسب، فقوله: ونعمة تأتي غير محتسبة، يوهم أن هذا القسم غير المستقبل، وهو داخل فيه، وعلى هذا فكان ينبغي له أن يقول النعم ثلاث: نعمة ماضية، ونعمة في حال كونها، ونعمة تأتي مستقبلة، فأحسن الله آثار النعمة الماضية، وأبقى عليك النعمة التي أنت فيها، ووفر حظك من النعمة التي تستقبلها ألا تراه لو قال ذلك لكان قد طبق به مفصل الصواب؟ وقد استوفى أبو تمام هذا المعنى في قوله:ووقف أعرابي على مجلس الحسن البصري رضي الله عنه فقال: رحم الله عبدا أعطى من سعة، أو آسى من كفاف، أو آثر من قلة، فقال الحسن البصري: ما ترك لأحد عذرا.وقد عاب أبو هلال العسكري على جميل قوله: فقال أبو هلال: إن إتيان الرسائل داخل في جملة الوصل. وليس الأمر كما وقع له، فإن جميلا إنما أراد بقوله وصلتك أي أتيتك زائرا وقاصدا أو كنت راسلتك مراسلة، وبالوصل لا يخرج عن هذين الوصفين إما زيارة، وإما رسالة.ومن أعجب ما وجدته في هذا الباب ما ذكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي هو قول العباس بن الأحنف: ثم قال الغانمي: هذا والله أصح من تقسيمات إقليدس ويالله العجب أين التقسيم من هذا البيت؟ هذا والله في واد والتقسيم في واد، ألا ترى أنه لم يذكر شيئا تحصره القسمة، وإنما ذم أحبابه في سوء صنيعهم به، فذكر بعض أحواله معهم، ولو قال أيضا: لكان هذا جائزا، وكذلك لو زاد بيتا آخر لجاز، ولو أنه تقسيم لما احتمل زيادة، والأولى أن يضاف هذا البيت الذي ذكره الغانمي إلى باب المقابلة، فإنه أولى به، لأنه قابل الوصل بالهجر، والعطف بالصد، والسلم بالحرب.ومن فساد التقسيم قول البحتري في قصيدته التي مطلعها: فقال: فإن المشوق يكون حزينا، والمسعد يكون معينا، وكذلك يكون المسعد عاذرا، وكثيرا ما يقع البحتري في مثل ذلك.وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي وهو: فإن المستعظم يكون حاسداً، والحاسد يكون مستعظماً.ومن شرط التقسيم ألا تتداخل أقسامه بعضها في بعض.ومن هذا الأسلوب ما ورد في أبيات الحماسة، وهو: فإن الخيانة من الإثم، وهذا تقسيم فاسد.ومما جاء من ذلك نثرا قول بعضهم في ذكر منهزمين: فمن جريح متضرج بدمائه، وهارب لا يلتفت إلى ورائه، فإن الجريح قد يكون هاربا، والهارب قد يكون جريحا، ولو قال: فمن بين قتيل ومأسور وناج، لصح له التقسيم أو لو قال: فمن بين قتيل ومأسور لصح له التقسيم أيضاً لعدم الناجي بينهما.وقد أحسن البحتري في هذا المعنى حيث قال: ومن فساد التقسيم قول أبي تمام: فإنه جعل صالي هذا الموقف إما ذليلا عنه أو هالكا فيه، وهاهنا قسم ثالث، وهو ألا يكون ذليلا ولا هالكا، بل يكون مقدما فيه ناجيا.وفي هذا نظر على من ادعى فساد تقسيمه، فإن أبا تمام قصد الغلو في وصف هذا الموقف، فقال: إن الناس فيه أحد رجلين: إما ذليل عن مورده، وإما هالك فيه: أي أنه لا ينجو منه أحد يرده، وهذا تقسيم صحيح لا فساد فيه. .القسم الثالث: صحة التقسيم وفساده: في ترتيب التفسير وما يصح من ذلك وما يفسد اعلم أن صحة الترتيب في ذلك أن يذكر في الكلام معان مختلفة، فإذا عيد إليها بالذكر لتفسر قدم المقدم وأخر المؤخر، وهو الأحسن، إلا أنه قد ورد في القرآن الكريم وغيره من الكلام الفصيح ولم يراع فيه تقديم المقدم ولا تأخير المؤخر، كقوله تعالى: {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} ولو قدم تفسير المقدم في هذه الآية وأخر تفسير المؤخر لقيل: إن يشأ يسقط عليهم كسفا من السماء أو يخسف بهم الأرض.وكذلك ورد قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم} فقدم المؤخر وأخر المقدم.والقسمان قد وردا جميعاً في القرآن الكريم: فمما روعي فيه تقديم المقدم وتأخير المؤخر قوله تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} ومن ذلك قوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} وكذلك قوله تعالى: {ومن رحمته جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ولتبتغوا من فضله} فلما قدم الليل في الذكر على النهار قدم سبب الليل، وهو السكون على سبب النهار، وهو التعيش.ومن ذلك ما كتبته في كتاب تعزية، وهو فصل منه قلت: ولقد أوحشت منه المعالي كما أوحشت المنازل، وآتت المكارم كما آمت الحلائل، وعمت لوعة خطبه فما تشتكي ثكلى إلا إلى ثاكل، وما أقول فيمن عدمت الأرض منه حياها، والمحامد محياها، فلم نطق الجماد بلسان، أو تصور المعنى لعيان، لأعربت تلك من ظمأ صعيدها، وبرزت هذه حاسرة حول فقيدها.ومن ذلك ما كتبته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان، فقلت: وما زالت أيادي سيدنا متنوعة في زيادة جودها وكتابها، فهذه متطولة بترقية وردها وهذه آخذة بسنة أغبابها، وأحسن ما في الأولى أنها تأتي متحلية بفواضل الإكثار، وفي الثانية أنها تأتي متحلية بفضائل الاختصار، فاختصار هذه في فوائد أقلامها، كتطويل تلك في عوائد إنعامها، وقد أصبحت خواطري مستغرقة بإنشاء القول المبتكر، في شكر الفضل المطول وجواب البيان المختصر، وما جعل الله لها من سلطان البلاغة ما يستقل بأداء حقوق تنقل على الرقاب، ومقابلة بلاغات تثقل على الألباب.ومما جاء من ذلك شعرا قول إبراهيم بن العباس:وهذه الأبيات من نادر ما يجيء في هذا الباب معنى وترتيب تفسير.ومما جاء منه أيضاً قول أبي تمام: وكذلك قوله أيضا: وهذا من بديع ما يأتي في هذا الباب.ومما ورد منه قول علي بن جبلة: ومن الحسن في هذا الباب قول أبي نواس: وكذلك ورد قول بعض المتأخرين، وهو القاضي الأرجاني: ومما أخذ على الفرزدق في هذا الباب قوله: لأنه أصاب في التفسير وأخطأ في الترتيب، وذاك أنه أتى بتفسير ما هو أول في البيت الأول ثانياً في البيت الثاني، والأولى أن كان أتى بتفسير ذلك مرتبا، ففسر ما هو أول في البيت بما هو ثان في البيت الثاني.واعلم أن الناظم لا ينكر عليه مثل هذا ما ينكر على الناثر، لأن الناظم يضطره الوزن والقافية إلى ترك الأولى.وأما فساد التفسير فإنه أقبح من فساد ترتيبه، وذاك أن يؤتى بكلام ثم يفسر تفسيرا لا يناسبه، وهو عيب لا تسامح فيه بحال، وذلك كقول بعضهم: وكان يجب لهذا الشاعر أن يقول بإزاء بغي العدا ما يناسبه من النصرة والإعانة، أو ما جرى مجراهما، ليكون ذلك تفسيرا له كما جعل بإزاء الظلمة الضياء وفسرها به، فأما أن جعل بإزاء ما يتخوف منه بحرا من الندى فإن ذلك غير لائق.
|